عبد الله علي إبراهيم

عبد لله علي إبراهيم يكتب.. الطاهر حسن التوم “حاله وحال البلد”

عبد الله علي إبراهيم


أجلت الكتابة عن مصرع “حال البلد” البرنامج التلفزيوني من قناة س 24 للإعلامي النجيض (كما كان يقول استاذنا شيخ أبو زيد عن المرحوم عبد الله أحمد عبد الله) الطاهر حسن التوم خشية أولئك الذين ربما رأوا فيما أكتب الراسل قبل الرسالة. وظنوا الظنون بما يفسد المسألة.

فدين الطاهر عليّ كثير لا قبل لي بسداده ولو. ولست محايداً متى عرضت له مسألة. فزدت عنه يوم نهشه الشيوعيون بألسنة حداد لظنهم أنه فتح ملف مذبحة الضيافة ليجدد الإساءة إليهم.

وما علموا أن ما أملى على الطاهر فتح الملف أنه بعض تلك المذبحة. فاسمه نفسه من ركامها على عمه الذي استشهد فيها. رحمه الله. وكان مهنياً حرفياً غاية في البرنامج سعى لشيوعيين يشركهم في الحوار فتباقصوا. لقد عرض على مائدة الجدل الوطني مسألة لم يفتح الله على الشيوعيين بشيء منها لزمن طويل برغم مقررات مؤتمراتهم. 

انتظرت أن تأخذ الغضبة من البرنامج دورتها في عالم لا يملك أي منا جغرافياه. وتنقضي. وتطلعت عودة البرنامج بعد أن تصافا حمديتي، قائد الدعم السريع، وهارون حاكم ولاية كردفان.

كان الأول قد قال على البرنامج أن أفضل مكان للأخير هو السجن. ثم جمع الرئيس البشير بينهما وتعافيا ونسب حميدتي الكلمة الغليظة لزلة لسان. وتوقعت أن يعود المنبر الذي زل لسان الرجل فيه علماً بأن الرئيس من شدد عليه أن يعتني بالإعلام عن الدعم السريع منعاً لسوء الفهم. بل لا ينشغل النظام اليوم مثل انشغال الرد على الشائعات.

ويأتي في معرض حربه لها بأفكار شاذة لن تتحقق في حين تغلق “حال البلد” بالضبة والمفتاح. وهو منبر مفتوح لها ليرد الراغب الشائعة إلى نحر أصحابها بالحقيقة. 

لا أريد لهذه الكلمة أن تكون هجاء للحكومة مما يحسنه المعارضون المعتمدون كما اسميهم. فالحكومة أصلاً ظالمة. وسمعت في غناء عطبرة طفلاً: “حكومة يا ظالمة عاوزين مطلبنا”. وكل حكومة إلى ذهاب وإن طالت اقامتها.

ما حملني على الكتابة ما امضني (وأمض الطاهر بأكثر مني ربما) موقف الشماتة من خصوم الحكومة من رأوا في وقف “حال البلد” مصداقاً بأن الإنقاذ باطل وقبض ريح، وأنها لا تحتمل، إلا لوقت قصير، مثل الطاهر ممن خرجوا لتبييض وجهها بمسحوق ديمقراطي. 

هذا لؤم من جهة الأخلاق وانسداد بصيرة من جهة السياسة. فمثل هذا الشامت لا يرى مجالاً لتحقيق أي قدر من حرية التعبير في نظام للإنقاذ. وأن هذه الحرية إقليم يقع بعد زوال الإنقاذ.

ولهذا كان خصوم الإنقاذ خِلواً من مطالب من الحكومة لا تسويف فيها تقع اليوم رضيت أم كرهت. وعوضاً عن ذلك تختزن المعارضة مطالبها الوضيئة إلى يوم هلاك الإنقاذ في يوم من ذات الأيام. 

ولو نظر الخصوم إلى ما يقرأون في صحفهم الحرة في الأسافير لوجدوا أن أكثر كتابها نشراً وقراءً هم كتاب صحف الخرطوم بالرغم من العنت المذل الذي يتعرضون له.

وصدق الأستاذ عثمان ميرغني في قوله من قريب عن منزلة الصحافة الورقية “الإنقاذية” في تشكيل الحوار الوطني العام: “غالبية الرأي المؤثر على الشارع العام يتكون من مقالات أو أعمدة منشورة في الصحف الورقية أو برامج مبثوثة في الفضاء”. فلم يصرف منابر الداخل عن شغلها عنت حكومي طال شمل حتى صحف النظام بنت المصارين البيضاء. وهو عنت للأسف لا يجد من خصوم لمعارضين سوى مضمضة احتجاج لفظية. ولكن درسهم الأكبر لكتاب الخرطوم: ألم نقل لكم أن هذا نظام لا يؤتمن على قلم نقد.

فلم تجد جريدة “الجريدة” من يلبي نداءها من هؤلاء الخصوم حين رفعت عقيرتها تطلب، وقد أرهقتها المصادرة، من أنصار الحرية أن يشتركوا فيها لأجل المقاومة وهي في طي المصادرة حتى لا تقع. لا أحد.

ومن فرط خلو المعارضين من مطلب لحرية التعبير الآن الآن، لا انتظاراً لسقوط النظام، أن كثيراً منهم أعلن مقاطعة انتخابات 2010 وهي حلم لا علم. ولم يسأل أحد نفسه، أو زميله، أليس بالمستطاع أن تجري هذه الانتخابات المنتظرة في شروط حرية التعبير والتنظيم نحمل الحكومة عليها حملاً.

وليس من غرضي لا هجاء الحكومة ولا المعارضة اليوم وإن لحقهما رأس السوط. بل أريد أن ارجع إلى مسألة قديمة شغلتني خلال تفرغي بالحزب الشيوعي (1970-1978) وهي: أين المنطقة الوسطى بين الحكومة والمعارضة (وقد طالت قطيعتهما لنصف قرن من عمر استقلالنا الستيني) التي يجد فيها إعلامي، غير مشغول بصراع الحكومة والمعارضة إلا من جهة أنه مادة لمهنته كمثل الطاهر، براحاً محتملاً من الطرفين؟

لقد دقت الحكومة والمعارضة بينهما عطر منشم العربية المعروفة صارت به غنماية المعارضة لا تنكرش في حائط الحكومة والعكس صحيح في مجاز سوداني للفسولة من مرويات شوقي بدري.

كنت في الخفاء الشيوعي ألقى رفاقي فيزفون لي مثلاً خبر سقوط هذا الكاتب أو ذاك في شباك الحكومة بشيء من التشفي. وكنت أفكر إن لم يكن الاستقطاب بين المعارضة والحكومة قد جرّف المنطقة الوسطى بينهما فصار الخيار أن تكون إما هنا أو هناك. فليس بين الحكومة والمعارضة منطقة وسطى للمهنة مرعية الأعراف بين الطرفين.

وقرأت لأستاذنا عبد الخالق محجوب يوماً بعد انقلاب 17 نوفمبر كلمة عن تجريف المنطقة الوسطى. فرثى لصحفي كان معارضاً لدوداً للمعونة الأمريكية ثم تحول إلى تأييدها لا مسايرة لقبول نظام عبود لها بل لأن لحكومة اجتمعت بالصحفيين في أول يومها وأرتهم العين الحمراء.

فلأننا لم نتوافر على هذه المنطقة الوسطي صار الانتقال بين حائطي الحكومة والمعارضة عجولاً ومزلزلا ووقحاً. وما حادثة تحول الأستاذ حسن إسماعيل، القلم الذرب في المعارضة، للحكومة بليل إلا مثلاً تلقته المعارضة بالويل له والثبور لا بالدرس المستحق.

وأذكر أنه في تأملي لهذه القطيعة المكلفة للمهنيين من هم لا هنا ولا هناك قلت للمرحوم محمد وردي يوماً في مكتب الأدباء والفنانين الشيوعيين في نحو 1976:” يا وردي من اليوم نزعنا منك لقب فنان الشعب. إنت فنان كل معجب بك. هسع لو أبو القاسم محمد إبراهيم معجب بيك حنقولو ما عايزين إعجابك يا سفاح لن ترتاح”.

كان في بالي أن نوظف سعة وردي في الفضاء الثالث بين الحكومة والمعارضة بخاصة في تخفيف الاعتقال أو الفصل التعسسفي أو غيره على رفاقنا وسائر المناضلين لدالته على السلطان.

وجاءنا يوم حاجة كهذا حين طلبت والدة لمرحوم محجوب شريف أن ترى محجوب المعتقل وهي على فراش الموت. وطرقنا باب الاتحاد الاشتراكي وعرضنا الأمر على أستاذي المرحوم عون الشريف فلم يتأخر في الخير. وتم لنا ما أرادت “يا والدة يا مريم”. وكان لمحجوب حضور عند أمه المحتضرة في ذلك اليوم الحزين.

ولا أعرف من شكي مر الشكوى من شقاء المنطقة الوسطى مثل المرحوم النذير دفع الله مدير جامعة الخرطوم خلال انتفاضة أكتوبر 1964. وقد عبنا عليه يومها أنه لم يسهر مع الساهرين في المستشفى عند جثامين الشهداء والمصابين، ولا كان في عزاء أسرة الشهداء بالقراصة.

وأذكر أنه اجتمع بأسرة الأساتذة بالقاعة 102 بكلية الآداب. والقى علينا كلمة بإنجليزية حسناء تسر الناظرين. وقال لنا على مصطفى، مسؤول شؤون الطلاب في الستينات يوماً، إن إحسان الإنجليزية حرس للنذير. والقى على مصطفى مسامعنا نصاً كاملاً لكلمة القاها النذير في حفل ما وهو ما يزال طالباً بكلية البيطرة. ونعود من استطرادنا. 

لا أعرف كلمة رقدت بها شعرة مستمعيها ككلمة النذير. لم يتهافت اعتذاراً طلباً يريد النجاة بمنصبه. فقد كان استقال فعلاً قبل انحلال حكومة الفريق عبود. كان في كلمته متواضعاً هاضماً للذات ولكنه كان قوي العبارة في عسر الأداء لمثله بين حائطين لا ثالث لهما لا تنكرش غنماية أحدهما في حائط الآخر من البغضاء والفسولة.

قال في كلمته أن موقفة كمدير للجامعة تعقد بعد ضم جامعة الخرطوم لوزارة التربية في 1963. فتزايد الضغط عليه من الحكومة ليلجم الطلبة. فلم تكن الحكومة ترى لهم الحق في اتحاد أصلاً يعادونها من فوق منبره.

واستنكرت صمت الجامعة على وجود معسكرات طلابية سياسية فيها. وارتفعت وتيرة غضب الحكومة على نشاط الطلاب المعادي للحكومة في منشوراتهم وفي برقيات احتجاجهم للمنظمات الدولية. وأرسلت خطاباً للجامعة يمنع المحاضرات في حرمها بغير إذن من الشرطة. فتجاهله النذير. بل طلب وزير التربية أن يلتقي بلجنة الاتحاد فسوفه النذير. 

صور النذير الجامعة كسفينة في عباب بحر لاطم يحاول القبطان فيها أن يكون رابط الجأش ويستوي بها فوق الأمواج للنجاة. فلو تركها ابتلعها غور البحر. وقال إنه لم يتفق للإدارة مفهوم الحكومة للنظام في الجامعة ولكن ما اتفق لها هو أن صدامها مع الطلاب لأهون من صدام الطلاب مع الحكومة.

وقال:” كان معقد املنا أن تلطف لحكومة شئياً فشئياً وأن يجنح الطلاب لأوسط الأمور. ولم يقع لنا أياً من ذلك من أي منهما. ووجدت إدارة الجامعة نفسها في وضع لا تحسد عليه. فالطلاب أصموا آذانهم عن كل نصح يتطرق لنشاطاتهم السياسية أو توجيه. والحكومة من جهتها زادت وتيرة ضيقها بنشاطات الطلاب السياسة.

وكانت تبعة الإدارة بين شقي الرحي هاتين أن تؤمن للجامعة حريتها الأكاديمية ما وسعها من حكومة ديكتاتورية حانقة، وأن تتعاقد على نهج للسلم تحلبه من ألفين ونيف من الطلاب الساخطين.

هذه هي الأحداث والاعتبارات التي أملتها عليّ الظروف. لست نادماً على ما قمت به ولكنني حزين لظن جملة من زملائي بي. وهذا مفهوم في غيبة أي تفسير لم يأذن به الظرف.

وكنت آمل مع ذلك أن أحظى بتفهم زملائي لموقفي”.وخرج الجميع وقد عرفوا أن هناك من كان قلبه على مؤسستهم رعى أعرافها في بحر متلاطم الأمواج: أمواج سياسية ليست من اختصاصه ولكنه “راقصها” لتبتعد ولم تفعل. لقد هبط بهم من علياء الثورة الأبطال بهضم النفس والمهنية. وباللغة.

وإذا كان من بطل للمنطقة الوسطى المهنية في زماننا فهو الطاهر. ساء قول من اتهمه بالكيزانية. عرفته ولم يطر شاربه العضو الثاني لحزب لاثنين مع المرحوم محمد أبو القاسم في ردهات “الصحافي الدولي”.

واستغربت لصبي مثله كيف اكتشف أدبيات محمد في مأزق السودان والطريق الإسلامي الثالثة. وما تزال ذكرى محمد عنده أثيرة لم يمل الاحتفال بها. وكنت شاهد مسيرته معجباً في دار الخرطوم للصحافة والنشر، ثم “مراجعاته” في النيل الأزرق، حتى استوى على س 24. اعجبني فيه سعة حيلته يصل بين من ظنوا أنهم الشحمة والنار، ومن لم تنكرش غنمايتهم على حائط خصمهم. وله مزاج لا يعتكر كالحليب في أداء مهنته.

وربما عرف فطرياً أنه خارج لمنطقة وسطى بين الجنة والنار يخترعها اختراعاً. وشهد الله بلل أذن المدينة الشاحبة بحوارات حول مجرى الحياة التي هم فيها وحولها مخدومة جريئة وراشدة. قال لي مرة: “إنتو بس تعالو اتكلمو. نحن بندبر ليكم المنبر”.

وقد اخترع المنطقة الوسطى بفضل أفاضل استثمروا في مهنيته ونبله وحبه لوطنه مثل الدكتور وجدي ميرغني. فلم يؤسس لقناة أي قناة بل القناة الأجمل والأرشق عن “حال البلد”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ