ثقافة

التنوير.. شجاعة استقلال العقل

علاء الدين محمود

سؤال التنوير قديم جداً، قدم الحاجة للإجابة عنه، وقد أفرد له الكثير من المفكرين والفلاسفة صفحات من أجل تحديده، وبالطبع هو التحديد الذي يحمل تعاريف لا تخلو من أثر فكري للمفكر أو الفيلسوف، غير أن الكثيرين قد اهتموا بتناول الفيلسوف الأشهر عمانويل كانط «1724 1804»، لما طرحه من أفكار أحاطت بالمفهوم من خلال بذل فكري غزير.

لئن كانت آراء كانط حول التنوير وعصره تجول في معظم مؤلفاته الفلسفية ذات الطابع النقدي، إلا أنه قد توج كل تلك الجهود بمقالة حملت تعاريف دقيقة وإحاطة كبيرة بموضوع التنوير، والذي يحدده كانط في عصور إنسانية نشأ فيها جدل الذات والحوار حولها، ليستنتج أن عصر التنوير هو تلك اللحظة التي شهدت خروج الإنسان مما أسماه حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها.
عرف كانط لحظة القصور تلك بحالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان، خارج قيادة الآخرين، وأن الإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأنّ العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين.. لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك، ذلك هو شعار عصر التنوير، بالتالي فإن كانط يحدد تلك اللحظة التنويرية بانعتاق الإنسان من التبعية للآخر إلى استخدام عقله وفكره هو في استقلالية عن الآخر الذي يفكر نيابة عنه، ويفسر كانط تلك التبعية التاريخية بالخمول والجبن، وهما من الخواص التي يفسر بها خضوع الناس الأحرار لوصاية الآخرين، فالتحرر من ذلك مثل لحظة صعبة وشاقة في مسيرة الإنسان، وهو ما يبطئ المسير نحو الانعتاق وبلوغ الرشد.

ويرى كانط أنه من الصعب إفلات شخص بمفرده من حالة القصور، وأن الأكثر احتمالاً هو الوصول بالتنوير للجمهور، ولكن هذا يحتاج إلى قدر من الحريات، فالحرية شرط للتنوير، والحرية عند كانط تلك التي تُقبِل على استخدام علني للعقل في كل الميادين.
في كتاب «ما هو التنوير»، للمفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي ترجمه للعربية دكتور الزواوي بغورة، وصدر عن مكتبة آفاق في الكويت، يقف فوكو قارئاً ومؤولاً للفيلسوف كانط في تناوله للتنوير من خلال مقالته «ما التنوير»، المقالة التي أتينا على أهم ما حملته من أفكار وتعاريف خاصة بالتنوير، أقدم عليها كانط بأدوات النقد والتحليل، ليترك مهمة الحفر لفوكو، وبقراءة كانط يتحول التنوير عند فوكو إلى مسألة فلسفية، حيث درس فوكو التنوير بوصفه مسألة تاريخية شغلت العصر الكلاسيكي الذي يشمل القرنين السابع عشر والثامن عشر، في مجموعة لكتبه ترجمت إلى العربية تحت عناوين: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، و«الكلمات والأشياء» و«مولد السجن» و«إرادة المعرفة».
يقول فوكو: «إنّ الخيط الذي يربطنا بالتنوير، ليس هو الوفاء لمبادئ المذاهب، بقدر ما هو بالأحرى التفعيل الدائم لموقف ما، أي تفعيل روح فلسفية يمكننا أن نحددها بكونها نقداً مستمراً لوجودنا التاريخي»، لقد تلقف فوكو تعريف كانط عن التنوير، ليعلن أنه يمثله، بينما كان في وقت سابق يتحدث عن ظلاميات الثقافة الأوروبية التي لم يستطع التنوير معها صبراً، ولا هو أعلن القضاء عليها، بل شارك في ترويج يعلن أن عصر العقل قد جاء وقضى على ما عداه، وأن العقلانية لا يمكن أن تؤدي إلا لأنوار العدالة والمساواة.

عمل للفنان السوداني معتز الإمام

سلم فوكو بتحديد كانط للتنوير، وعبر عن ذلك في محاضرة أعدها ليلقيها، لكن المنية كانت أسرع، أما ما احتوته المحاضرة فكان منسجماً مع أفكار كانط حول التنوير، حيث أعلن فوكو عن موافقته في تلك المحاضرة على إجابة كانط من أن التنوير هو تجاوز الإنسان لحالة عدم النضج واعتماده في البحث على نفسه، ليعلن فوكو بالمقابل ارتداده عن أفكاره السابقة عندما قال «إن التنوير هو حالة مستمرة من المساءلة والنقد للحاضر».
الكتاب يلح في مقدمته على ضرورة فهم السياقات التي قادت إلى قراءة فوكو لنص كانط، حيث يحتاج الأمر إلى بيان السياق الذي قرأ فيه نص كانط: «ما التنوير»؟، وترى المقدمة أن هذا السياق يتحدد بعنصرين، يتمثل الأول في علاقة فوكو بكانط، وتظهر في تخصيص أطروحته «المتممة»، وفق التقليد الجامعي الفرنسي آنذاك، وكان موضوعها تعليق وترجمة كتاب كانط «الأنثربولوجيا من منظور براغماتي» وكذلك تحليله لمنزلة كانط في العصر الحديث في كتاب «الكلمات والأشياء»، بينما يتمثل العنصر الثاني في أن قراءة نص «ما التنوير؟»، تملك سياقها التاريخي، فقد كانت عبارة عن مشروع بين فوكو والفيلسوف الألماني هابرماس، وذلك عندما قدم هذا الأخير مجموعة من المحاضرات في الكوليج دي فرانس، حيث اقترح عليه فوكو، عقد لقاء مع مجموعة من الفلاسفة الأمريكان في عام 1984م، يكون موضوعه مرور قرنين على نص كانط «ما التنوير؟».
يأخذ الكتاب طابعاً جدلياً بين أقوال كانط وتعريفاته وتأويل فوكو لهذه المقولات والأفكار.
إن فوكو يعيد تعريف كانط للتنوير، «ويجد جوابه في خروج الإنسان من القصور وحالة العجز عن استخدام الفكر، إنه دعوة لاستخدام الفكر في جرأة وشجاعة واستقلالية»، حين يقول: «لتكن لديك شجاعة استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير».. هو خروج إلى حالة الرشد عن طريق استخدام العقل وعدم سماح هذا الإنسان للآخر بالتفكير عنه، أو الوصاية عليه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ