اقتصاد

التحرير والتعويم كوارث وعبر

د.قاسم الفكي علي جادالله

جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا
مايو 2021م

أثبتت تجربة سياسة التحرير الاقتصادي في السودان منذ الشروع في تنفيذ قراراتها في العام 1978م، وإلى حاضرنا في العام الجاري 2021م، عدم فاعليتها أو بالأحرى فشلها المشهود والمعاش بنتائج الكوارث المترتبة على مجرباتها من القرارات والتي أدت إلى تردي متواصل ومتصل في الأداء الاقتصادي وسوء الحال المعيشي، ومن أحدث حلقات قرارات السياسة، تعويم الجنيه وتعديل سعر الصرف الرسمي للدولار، من 55 جنيهاً إلى 375 جنيهاً قياساً على السوق الموازي، والذي وصل حالياً إلى 401 جنيهاً مطارداً السعر الموازي العشوائي والذى بلغ حالياً 405 جنيهات ومستمر في التحرك بثقة تامة للأمام زيادةً وانتعاشاً للسوق الموازي، بدون تأثر كبير بالسعر الرسمي المعلن، والذي يعبر عن السياسة النقدية المستهدفة للنظام المصرفي للدولة، فترك هذه التنافس اللا منطقي وغير المتكافئ أثراً سلبياً عميقاً في الواقع الاقتصادي والمعيشي بمعاناة متمددة في حياة المواطنين تتمثل في صعوبة الحصول على جل إحتياجاتهم الاستهلاكية، الضرورية منها والكمالية لقلة دخولهم والتزايد المضطرد في أسعار السلع عامة بسبب معدلات التضخم المتصاعدة، مما أفضى إلى ركود عميق مصحوباً معه انكماشاً واسعاً في اداء المؤشرات الإقتصادية الكلية، حيث بلغ معدل التضخم لشهر مارس الماضي 373.7% مقارنة 341.7% لفبراير، وذلك وفق تقرير الجهاز المركزي للإحصاء، كل ذلك بسبب ضعف الإنتاج المحلى كماً ونوعاً، وإرتفاع اسعار السلع المستوردة عامة وعلى قمتها الوقود بسبب تحريره وتخفيض الجنيه بتعويمه، فزادت بذلك تكاليف النقل بأضعاف مضاعفة فتسببت في الأرتفاع المتواصل لاسعار جميع السلع والخدمات، وبما أنّ الاقتصاد السوداني يعتمد في توفير جل إحتياجاته المحلية على الواردات وبنسبة تفوق 90%، فأنّ أيّ سلعة تستورد بمبلغ واحد دولار من الخارج تعادل تكلفة شرائها بالعملة المحلية حسابياً مبلغ 375 جنيه للدولار كسعر في بداية القرار، لان السعر الرسمي اليوم تجاوز 400 جنيه كما اشير ، فبعد اضافة حسابات التكاليف الأخرى عليها، من شحن وجمارك وترحيل وهامش ربح، فإنّ سعر بيعها محلياً وكحد أدني يفوق 600 جنيه، عليه فإن سعر البيع لكل السلع المستوردة بمبلغ واحد دولار يكون بمضاعفات 600 جنيه، وبهذا السعر الباهظ تعتبر هذه السلع خارج نطاق القوة الشرائية لغالبية السكان، فيقل الطلب عليها بقدر كبير ويترتب على ذلك بوارها وكساد واسع في السلع المعروضة فى الأسواق المحلية لعدم فاعلية طلبها، أما الكارثة الكبرى التي بدأت ملامحها تتري، هى التحرير التدريجي المتسارع للدولار الجمركي، من مبلغ 6.9 جنيه إلى 15 جنيهاً، ومنه إلى 20 جنيهاً ، ثم إلى 28 جنيه، فى غضون أقل من شهر، ونحسب أن أركان هذه الكارثة الاقتصادية ستكتمل، إذا صح ما رشح في الإعلام بإتجاه وزارة المالية إلى اتخاذ قرار جديد بزيادة الدولار الجمركي إلى 55 جنيه، بصرف النظر عن الأثر السلبي الملموس للزيادات التي تمت في الدولار الجمركي وإنعكاساتها على الأسعار ومعدل التضخم وأداء المؤشرات الإقتصادية الكلية (يمكن الرجوع لتفاصيل الورقة العلمية عن مسببات التضخم في السودان 2012-2021م والمقال المنشور إلكترونياً عن الأشارات الحمراء لانهيلر الجنيه السودان)، والتي اشارت خلاصاتها إلى وصف الواقع الحالي للاقتصاد السوداني بشبه الجمود في الحركة الاقتصادية والانتاجية واختلال كبير في الاستثمار الداخلي والخارجي بالإضافة لانخفاض ملحوظ في الإيرادات العامة، متزامناً معها انخفاض غير مسبوق في قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، فغمر التضخم الركودي المتسارع جل النشاطات التنموية، فأصبح النشاط الاقتصادي بمطلقه (تجاري، خدمي وإنتاجي)، غير فاعل ومجزي، فظهرت بذلك حاله يمكن وصفها بالمزيج الذي يجمع مابين الوفرة المتزامنة مع الشح في السلع والخدمات وغلاء أسعارها، وعدم فاعلية الطلب عليها، وذلك لضعف مستويات الدخول والأجور بجانب فقدان العملة الوطنية لقوتها الشرائية وباستمرار عبر الزمن وحدوث التلاشي التدريجي في القوة الشرائية لوحداتها النقدية ( مثل، نصف الجنيه، الجنيه، 200 قرش، كمعدنية، بجانب الورقية، كالجنيهين، الخمسة جنيهات، العشرة جنيهات، العشرين جنيهاً، واخيراً الخمسين جنيهاً والمئة جنيه، والتي تتسارع وتصارع مع واقع التصاعد المتواصل للنسب التضخمية، والذي حتماً سيصرعها ويضمها إلى رمزية المتحف التاريخي للوحدات النقدية من العملة الوطنية عديمة المقابل السلعي والخدمي في الاسواق). عليه، فإن الواقع الاقتصادي المتسبب فيه بالسياسات، قد أدى إلى خسارة الجميع وعلى رأسهم الحكومة بتأزم عجز موازناتها بالتراجع الكبير في إيراداتها النقدية والتى تم حسابها على الورق، بناءً على سياسة التحرير بكلياتها، وبخاصةٍ قرارات تحرير وتعويم الجنيه، وزيادة الدولار الجمركي، ومن الخاسرين المستوردين، لحقيقة التكاليف الباهظة على الواردات، بمسبب تعديل سعر صرف الدولار، وزيادة الدولار الجمركي، بجانب التكاليف الأخرى على الواردات، وتطال الخسارة أيضاً التجار ومنتجي السلع محلياً، وذلك لارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج وتكاليف النقل، بمسبب تحرير الوقود وعدم فاعلية الطلب على السلع لغلاء أسعارها، وأخيراً كبش الفداء الأكبر تضحيةً وخسارةً هم الفقراء وعموم المواطنين لعجز جلهم عن مجرد الإستمرار في التحرك سعياً لكسب معايشهم، وذلك لارتفاع تكاليف المواصلات وخدمات النقل الداخلي عامة، بمسبب تحرير الوقود، وبذلك حرم جلهم كرهاً التمتع بأدنى متطلبات المعيشة اليومية، لان اسعار كل السلع المستوردة، وقليل المنتج منها محلياً، تجاوزت إسعارها بأضعاف مضاعفة القوة الشرائية المتاحة لبعض المواطنين، كما يقع ضرراً كبيراً أيضاً على أصحاب الدخول المحدودة ومتلقي الأجور من العاملين في الخدمة المدنية، والذين تحققوا تماماً حالياً من إحساس الفرح الكاذب والمؤقت الذي تذوقوا حلاوته تجريبياً في الفترة الأولى للزيادات التي تمت في الأجور، وقد إمتصها السوق لاحقاً من خلال الزيادات الكبيرة التي حدثت وما زالت تحدث في أسعار جميع السلع والخدمات وبوتيرة يومية تقريباً، يحدث كل ذلك بدون بصيص أمل لتحسن الأحوال وتراجع في المستوي العام للأسعار، او في المقابل إتخاذ قرار زيادة الأجور في المستقبل القريب والبعيد، لأن الأجور الحالية تفقد بإستمرار قوتها الشرائية بمسببات السياسات.
إنّ الواقع المحلي الماثل في السودان، بمعاناته التي يعيشها حالياً ضعفاء المجتمع، جراء مترتبات قرارات التحرير والتعويم للعملة الوطنية لفرضية صحتها، والتي في تقديرنا لا تتحقق،، إلا باستيفاء شروط الجاهزية المسبقة لمتطلباتها، التي تؤمن نجاحها، وذلك من خلال إجراء حسابات علمية عميقة ودقيقة لجوانب السلبيات والإيجابيات، وبمنطق محسوب لتبريرها وإثبات صحة فرضية نجاحها وذلك بضمانات الاستقرار في المستوي العام للأسعار لتحقيق ثمرات التطبيق لسياسات التحرير، بذا يطمئن الناس على ضرورتها ومردود فوائدها بلا خوف على اضرارها علي معيشتهم، وبذا يدعمونها ويصبرون عليها، ولكن من الراجح بظني أن قرار تعويم الجنيه ب كوارث وعبر نتائجه السلبية الماثلة جاء تنفيذه على غرار ما تم في جمهورية مصر العربية، وكحقيقة ثابته، فإن مصر بقاعدتها الإنتاجية والتصنيعية القوية وخياراتها الاستهلاكية الواسعة والمتاحة للجميع وحسب مستويات دخولهم، لا تشابه مطلقاً حقائق الواقع في السودان حتي يحاكيها فيما تفعل، ومع ذلك يتم التشديد على تطبيق ذات السياسات والدفع بالمزيد منها رغم عدم وجود ثمرات ملموسة لها ومعاشة من قبل الناس أو في المقابل تقديم المعالجات الفاعلة والضرورية بتوفير الاحتياجات المعيشية لأكثر من 90% من السكان كمتضررين يعانون السلبيات المترتبة على القرارات المتخذة والتي حرمتهم من الحصول على متطلباتهم الأساسية وذلك لتقاصر مستويات دخولهم عن مجاراة غول السوق، بسبب الحالة التضخمية المتسبب فيها بالسياسات الإقتصادية، لذا، يمكن القول وكرأيي الشخصي، أنّ عملية التحرير عامة وبخاصة تعويم الجنيه وتحرير الدولار الجمركي ستستكمل بنجاح، ولكن بلا مخرجات ثمرات إيجابية محسوبة وملموسة في الاقتصاد وحياة الناس على السواء، وحينها حتماً سيواجه الأكثرية من ضعفاء المجتمع المزيد من الضيق المعيشي والحرمان من أساسيات الحياة الكريمة، وذلك نتيجة إغراقهم في نزيف المعاناة وشظف العيش المتسبب فيه، وبعدها سوف لن تجد الحكومة قوة بشرية فاعلة وكافية من المواطنين، لتقود بهم المسيرة التنموية وتنجزها في مدى زمني معلوم، وبذلك تنتقل البلاد إلى مرحلة الإحتباس مرة أخري في حالات مماثلة للتخلف التاريخي سابقاً، فيغدو دوماً الأمس افضل حالاً من اليوم، والماضي خير من الحاضر، فيعض الجميع أصابع الندم حسرةً على الضياع، فكيف يتسني لأمة الأمجاد الإنطلاق بحركتها التنموية سريعاً للأمام بأمل اللحاق بركب السابقين؟.
بما ان الجميع خاسرون كما اشرنا، من نتائج سياسات التحرير الإقتصادي والتعويم للجنيه، فمن المستفيد إذاً من سياسات التحرير كمبرر لاصرار جهات الإختصاص الاستمرار في تجريب مجرباتها من القرارات عبر الزمن؟ رغم ما تأكد وبلا أدنى درجة من احتمال الشك من نتائجها السالبة وضررها البيّن بالإقتصاد القومي ومعاش الناس، وفق عبر فشل تجاربها في الماضي، ومعطيات كوارثها المعاشة في الحاضر بتفاصيلها، عليه، فإلى أين يتجه الحال الإقتصادي للبلد؟ ومتي وكيف يتأتي تحقيق النجاح وحلول الفرج حسابياً وزمنياً؟ كلها تساؤلات تنتظر إجابات علمية شافية من الداعمين والمدافعين عن سياسة التحرير الإقتصادي، فكثيرون مثلي ينتظرون رداً، فهلا استجبتم واجبتم بما يشفي الغليل والعليل؟!!!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ