رأي

قراءة في حسكنيتة الأولى

 

 

سلمى التجاني

كنت شاهدة عيان على مؤتمر حركة تحرير السودان بحسكنيتة في أواخر العام ٢٠٠٥ م ، عايشت عن قرب ، كصحافية مهتمة بملف قضية السودان في دارفور ، الأسباب والدوافع التي قادت للدعوة للمؤتمر . لم تكن المعلومة وقتها متاحة للكثيرين ، لكن المصادر كانت تقول الكثير وتسرِّب ما تريد لمن تثق بهم من الصحافيين .

بدأت خلافات الرفاق داخل الحركة بأعتراضات كانت في أولها عادية حول تسيير الامور واتخاذ القرارات بداخل الحركة ، ثم احتدت فأخذت منحىً يشبه التكتل في محورين وسرعان ما تحول لكتلتين تتصارعان على قيادة الحركة بدافع الحفاظ على مشروعها والحفاظ على مكتسباتها السياسية والعسكرية التي مهرتها بدماء ابنائها . رويداً رويدا بدأ الاستقطاب يحتد وسط العسكريين والسياسيين واشتدت التعبئة داخل المعسكرين . كان صراعاً عنيفاً استخدمت فيه أسلحة الفساد المالي والاداري والمظالم الشخصية وتدفقت تسريباته لتسِّود صفحات الصحف .

كانت الخرطوم تحبس انفاسها بين مشفقٍ وشامتٍ ومراقب ، وضنّ كثيرٌ من العقلاء بكلمة قد تنقذ الموقف وتقرِّب الشقة بين الرفاق .

في هذه الأجواء انعقد مؤتمر حسكنيتة ، نظمه ورتب له وقدم دعواته معسكرٌ واحد ، كنت هناك ، و لم يكن المجتمع الدولي بعيداً ، فقد كات بعض دول الجوار ومنظمات تمثل لوبيات أمريكية داعمة لقضية دارفور كانت هناك حضوراً داعما ومؤيداً .

فشلت محاولات الساعة الخامسة والعشرين ، والتي كانت في الحقيقة مخلصة وجادة ، فشلت في إيقاف عجلة التشظي .

كان مؤتمر حسكنيتة هو البداية الفعلية لتصفية قضية دارفور ، ، انقسمت حركة تحرير السودان لحركتين وسرعان ما وقعت احداها على اتفاق أبوجا في العام ٢٠٠٦ ثم عادت وحملت السلاح .

عشرة أعوام ٍ تزيد قليلا ويبدأ السيناريو من جديد ، فمنذ بداية مارس الماضي خيمت ذات الأجواء ، اجواء حسكنيتة ، على سماء الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وسارت وتسير ماجريات الأحداث وقع الحافر على الحافر ، بدأت بالدوافع النبيلة والنوايا الحسنة ، على الاقل وفق ما يقوله أطراف الصراع . وبدأ اصطفاف المجتمع الدولي وبعض دول الجوار المهتمة بشأن السودان .

هل ما يحدث وحدث بالحركة الشعبية لتحرير السودان هو حسكنيتة الثانية ؟ وهل هناك من يستطيع / يستطيعون إبطاء عجلة الانقسام ؟ وهل لا زالوا يكتفون بالمراقبة والقلق ؟

ان كان ذلك كذلك فسيكتبنا تاريخ امتنا اننا قد وقفنا نتفرج على احد أقوى المشاريع الوطنية للتغيير وهو يتراجع او فلنقل يتشطى .

 

2

كانت حسكنيتة في أواخر العام ٢٠٠٥ م مدينة فوق العادة ، تماماً كما كاودا الآن ، فهي عروس ثورة السودان بدارفور ، بها القيادتين السياسية والعسكرية لحركة تحرير السودان ، قطعنا مسافة ١٣٠٠ كيلومتراً خلال ثلاثة ايام ، من منطقة كرب التوب على الحدود السودانية مع ليبيا بسيارات اللاندكروزر السريعة ، مرورا بمناطق في دار زغاوة ودار ميدوب . حكمت حركة تحرير السودان وقتها اكثر من نصف مساحة دارفور الكبرى ، فباتت على بعد كيلومترات من مدينتي الفاشر ونيالا حاضرتي اقليم دارفور ، وتمدد نفوذها حتى وادي عطرون على حدود دارفور مع الولاية الشمالية .

تحكم الحركة المناطق التي تقع تحت سيطرتها كدولة ، بنظام اداري استطاع الحفاظ على إيقاع الحياة اليومي ، ازدهرت وقتها حركة التجارة في بعض المدن كمهاجرية التي مثلت العاصمة الاقتصادية للثورة ( مدينة مشتركة بين حركتي التحرير والعدل والمساواة ) ، نشطت حركة التجارة هناك حتى أصبحت مكاتب تحويل واستبدال الدولار واليورو منتشرة ومن النشاطات العادية بمهاجرية . بسطت هيبتها بوحداتٍ للشرطة والجيش ومحاكم ادارية تفصل بين المواطنين وترد الحقوق ، وتشعر المواطن انه يعيش في ظل دولته الْحُلْم . لذلك ، وكما ورد في شظايا الاحجية ، فإن المواطنين يبدأون في الاحتفال والسجود شكرا لله بمجرد ان تدخل مركباتهم الأراضي التي تقع تحت حكم الحركات الثائرة بدارفور .

حسكنيتة التي اسماها القائد مني أركو مناوي رئيس الحركة المنتخب في المؤتمر اسماها مدينة التحرير ، فِي الحقيقة هي شكلت عاصمةٌ لدولة التحرير . بها مقر القيادتين السياسية والعسكرية للحركة ، يُستقبل فيها الزائرون المهمون بعزف سلام الحركة وكركون الشرف .

بدا ما حدث لثورة دارفور في حسكنيتة كشأن داخلي ثوري يخص اهل دارفور ، غابت أو غُيِّبت عنه نخب السودان ؛ فقد انفجرت الثورة فتية وسط التأييد الشعبي من اهلٌ دارفور ، و انخرط في صفوفها الشباب الدارفوري من داخل وخارج السودان . ومن خارج دارفور ، وان كانوا اقل عدداً ، فضمَّ جيش الحركة قادةً وجنود من شمال السودان ومن جنوبه ومن جبال النوبة ، من خلفيات فكرية وسياسية متعددة ، توحدهم الرغبة في التغيير وانجاز سودان العدالة والمساواة . تداعوا لميدان القتال بهمة بادية ، فتجدهم بالميدان بزيهم العسكري الموحد فيهم الطالب الجامعي والطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة .

وخلال ثلاثة أعوام أصبحت الثورة ملء سمع وبصر العالم ، فتحدثت اجهزة الاعلام عن القمع العنيف الذي واجهته برا وجوا فأسفر عن ابادةٍ جماعية راح ضحيتها قرابة نصف المليون ، واضعافها بين مشرد و مهجّر .

مضى إيقاع الثورة بأسرع من قدرة الثوار على استيعابه ، وبالتالي اكبر من قدرة النخب السودانية على متابعته وتحليله والاقتراب من كنهه .

ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة بدارفور تجني ثماراً سياسية وعسكرية كان مشروعها الفكري قيد التبلور ، تظهر ملامحه في شعارات السودان الجديد التي تبنتها حركة تحرير السودان بلمسات دارفورية .

فقد انتمى ابرز قادة حركة التحرير للحركة الشعبية لتحرير السودان واليسار السوداني ، ودار الحديث حول علاقةٍ قوية تجمعها بالحركة الشعبية الام تمثلت في الدعم اللوجستي لحركة التحرير في بداية تكوينها عبر القائدين عبدالواحد النور واحمد عبدالشافع .

لذلك ظلت نخب السودان تراقب ، او لا تراقب ما مجري هناك ، بينما انشغلت القوى الثورية بدارفور بالعمل العسكري وكسب مناطق جديدة ، اضافة لانشغالها في وقتٍ مبكّر بالتفاوض مع النظام ، والذي أسفر عن اتفاق أبوجا في مايو ٢٠٠٦ .

كانت منشغلةٌ بكل ذلك عن تقديم مشروعها لبقية اهل السودان ، فبدا وكأنها تحارب وحيدة في جزيرة معزولة عن فصائل المقاومة السودانية الاخرى .

صبيحة انعقاد مؤتمر حسكنيتة ، والذي صادف اول ايام عيد الفطر في ذلك العام ، قال سياسيٌ بارزٌ بالحركة انهم يحتفلون بعيدين : عيد المؤسسية وعيد الفطر . وقد أسفرت ( المؤسسية ) عن حركتين ، بمركزيتين ، تتازعان حول اسم حركة تحرير السودان وحول شرعية السلاح . اصبح القائد عبدالواحد محمد نور متخندقاً وسط جنوده بجبل مرة ، وأضحى بقية الميدان كله لمناوي الذي يمتلك سلاحاً اكثر وجيشاً اكبر . فشلت محاولات يأن برونك ممثل الامين العام للأمم المتحدة في السودان في رأب الصدع ، وبعد قرابة الاسبوعين ، استقبلت طاولة التفاوض بأبوجا حركة تحرير السودان في وفدين منفصلين ، يتفاوضان حول ذات القضايا .

لم تفلح حرب الفريقين ضد بعضهما في استئصال الآخر ، لكنها نجحت في شق صف الثورة وإضعافها توطئةً لتصفيتها .

وبعد خمسة اشهرٍ من مؤتمر حسكنيتة وقَّعت حركة تحرير السودان على اتفاق أبوجا الذي بموجبه وضعت السلاح ودُمِج جزءٌ كبيرٌ من قواتها في قوات الشرطة والجيش ، ثم اشهرٍ قليلة وعادت حسكنيتة ( عاصمة التحرير ) لعهدها الاول ، كمدينةٍ ريفيةٍ صغيرة في الجنوب الشرقي من دارفور تخضع لجبايات وشرطة الحكومة .

في مقالٍ له وصف استاذنا عبدالله رزق ثورة السودان بدارفور بالثورة المغدورة ، كم ثورةٍ مغدورةٍ نحتاج حتى نعي الدرس .

 

3

حرب البيانات

أعادتني ( حرب ) البيانات بين طرفي الصراع بالحركة الشعبية لتحرير السودان هذه الايام لأُخرى مشابهة داخل حركة تحرير السودان . فقد انطلق في الحادي والثلاثين من يناير ٢٠٠٥ م تناوشٌ بالبيانات بين قُطبيْ النزاع بالحركة ، صاحبته حرب المصادر الصحفية ، تماماً كما يحدث الآن بالحركة الشعبية ، وسأفرد لهذا الجانب حلقة قادمة .

أول بيان في ذلك الصراع اصدره القائد العام لجيش تحرير السودان القائد جمعة حقار أعفى فيه القائد عبد الواحد النور رئيس الحركة من مهامه وجمَّد صلاحيات الامين العام للحركة القائد مني أركو مناوي لحين انعقاد المؤتمر العام والذي لم يُتفق على اجله حينها . أجمل البيان أسباب اقالة رئيس الحركة في خمسة بنود حملته التفلت في الميدان والسطو على عربات الاغاثة وقتل المدنيين بجبل مرة وتكوين اجسام ومؤسسات خارج اجهزة الحركة .

لم يتأخر بيان الرد ، فقد جاء ممهور باسم ( القيادة السياسية والعسكرية للحركة ) اتهم قائد الجيش وقادة ميدانيين آخرين بعلاقات مع نظام الخرطوم .

نقلت حرب البيانات الصراع المكتوم داخل الحركة للعلن ، لكن الخلافات لازمت الحركة منذ نشأتها . فالروايات التي تؤرخ لنقطة انطلاق الثورة بدارفور صاحبها عدم الاتفاق ، ربما لم يجد واضعي لبنات الثورة الوقت بعد للكتابة عن البدايات ، لأجل التاريخ والدراسة والبحث وأخذ العبر .

هنالك روايتان في ذلك ، ساوردهما لقربهما للمنطق ، وكذلك لتقاربهما نوعاً ما ، بحيث تصلحان بقليلٍ من الربط لتصبحان رواية واحدة . فبعض المعاصرين لبدايات الثورة بدارفور يرى ان نواتها كانت خلية الثمانية عشر التي كونها الشهيد عبدالله أبكر ، مؤسس وقائد جيش الحركة الذي استشهد في معاركها الاولى ( صاحب مقولة الثورة كاللحية لا تنتهي بالحلاقة المتكررة ) . كان اول اجتماع للخلية في ديسمبر من العام ٢٠٠١ بمنطقة قلي كي غرب عدالخير بمنطقة كرنوي شمال دارفور ، حيث أدت المجموعة قسم الولاء والثورة للشهيد عبدالله وبدأت عمليات عسكرية خاطفة ، كما شرعت في الاتصال بعمد ونظار القبائل تبشِّرهم بالثورة وتدعوهم لرفد صفوفها بالمقاتلين . وبتزايد إعداد الثوار نفذت الخلية عملية خاطفة بمركز شرطة ابوقمرة غنمت منها بعض العتاد ثم تحركت صوب جبل مرة .

الرواية الثانية تفيد بان البداية كانت من جبل مرة ، بعد ان تجمع أبناء الجبل في مليشيات لصد هجمات أفراد من القبائل العربية على المواطنين ، وبذلك تعتبر هذه الروية ان الشهيد القائد ابو الخيرات وقواته اول لبنة لثورة السودان بدارفور .

المتفق عليه ان المجموعتين التقتا بجبل مرة غرب دارفور وتم إرسال خطاب تهديد لحكومة الولاية في يناير ٢٠٠٣ يطالب بإطلاق سراح أبناء قبيلة الفور المعتقلين بسجن زالنجي ، على رأسهم القائد عبدالواحد النور ، ما استجابت له حكومة الولاية مكرهة . وفِي الثامن من فبراير من ذات العام نفذت هذه القوات عملية عسكرية على منطقة قولو ، وبعد فشل الحكومة في استعادتها أعلن القائد عبدالواحد عن ميلاد الحركة ورُفِع علمها بالمنطقة .

من هناك انطلقت الحركة ، كانت حركة تحرير دارفور ثم أصبحت حركة تحرير السودان .

الميثاق الذي توافق عليه الثوار كان وثيقة عاجلة اقتضتها ظروف الثورة ، وبرغم بحثي على ذلك الميثاق لم استطع الوصول اليه ، حتى ظننت انه ميثاق شفاهي . سرية العمل في ذات الوقت ربما حتمت عدم تداوله ، ولكن وبعد اكثر من عشر سنوات لم يتوافر كثير من الباحثين والمهتمين على نصوصه .

ومن الميثاق بدأت الخلافات ، عدت لتقريرٍ أعددته لصحيفة الرأي العام في فبراير ٢٠٠٥م ، مع بداية ظهور خلافات الحركة للعلن ، فارجع عددٌ من قادة الحركة خلافاتها لميثاقها الاول . فالوثيقة ، بحسب بعض القادة ، أوكلت مهام قيادة الحركة لقادة من اكبر القبائل الثلاثة التي أسست للعمل المسلح هناك ، فكانت الرئاسة لقبيلة الفور ( القائد عبد الواحد ) ونائب الرئيس لقبيلة المساليت ( القائد خميس ابكر ) ، وأوكلت الامانة العامة لقبيلة الزغاوة ( القائد مناوي ) ، لم تحدد الوثيقة آليةً للمحاسبة او منهج للفصل في النزاع حول الصلاحيات ، وربما الصلاحيات نفسها لم تكن محددة بالصورة التي تمنع التداخل .

إضافةً لذلك ، ولبعض الوقت ، تواجد قادة الحركة خارج الميدان بدارفور ، مما سمح بتفاقم الخلافات هناك بين بعض القادة الميدانيين ، وصل أحياناً للمواجهات المسلحة داخل مكونات الحركة .

في هذه الأجواء تطورت الخلافات بالميدان ووصل صداها لقادة الحركة باسمرا ، لذلك عندما ذهبتُ لاسمرا في مارس ٢٠٠٥م كان أوضح أوجه الخلاف ان قادة الحركة يقيمون في بيتين منفصلين لا علاقة بينهما ، في مظهرٍ من مظاهر القطيعة المبكرة .

وللعلاقات الوطيدة التي ربطت الحركة منذ ايام نشأتها الاولى مع دولة ارتريا والرئيس أسياس افورقي ، استشعر افورقي خطورة ما يجري فكان ان قام بمبادرةٍ لرأب الصدع في النصف الثاني من العام ٢٠٠٤ ، وفَّر فيها فرصة الالتقاء والتفاكر بين مكونات الحركة ، لم تنجح المحاولة ، وبدأ الحديث عن ضرورة قيام مؤتمر عام للحركة يضع النقاط في حروف الوثيقة الاولى ، فكان مؤتمر حسكنيتة .

في الحلقة القادمة اكتب عن حرب المصادر الصحفية وكيف مهَّدت الطريق الى حسكنيتة

 

4

حرب المصادر الصحفية

تتلاحق الأحداث داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بوتيرةٍ متصاعدة تعيدنا كما اورت في حلقاتٍ سابقة لأجواء ما حدث بمؤتمر حسكنيتة في أكتوبر من العام ٢٠٠٥ والذي قاد لانقسام حركة تحرير السودان .

فقد علَّق نائب رئيس الحركة الشعبية القائد عبد العزيز الحلو في اول حوارٍ له بعد انفجار الاوضاع داخل الحركة عقب تقديم استقالته ، علَّق على تسريب خطاب استقالته قائلاً ( مسألة تسريب خطاب استقالتي ربما كان من مصلحة القضية ، بتمليك الشعب السوداني بعض حقائق الأزمة الداخلية للحركة ، للمساعدة في المعالجة ، وقيل رب ضارةٍ نافعة ) ، الحوار اجرته شبكة عاين في الثامن من ابريل الجاري للتعليق على القضايا المثارة في استقالته التي حصلت عليها صحيفة الجماهير الألكترونية من مصدر وصفته بالموثوق ونشرتها على موقعها في الخامس عشر من مارس المنصرم . تعليق القائد الحلو يقودنا للحديث عن المصادر المجهولة في الصحافة ، فيصادف هنا ان أزمة حركة تحرير السودان التي سبقت المؤتمر كانت قد خرجت للعلن عبر مصادر خاصة . وقبل ان ندخل في تفصيل ذلك نتحدث عن أهمية المصادر المجهولة في الصحافة .

المصدر في الصحافة قد يكون شخص او وثيقة او تسجيل يحوى معلومات . أحياناً يجد الصحافي نفسه مضطراً لتجهيل المعلومة وذلك لأهميتها للجمهور ولأنها قد تعرِّض مصدرها للخطر او لطائلة القانون ، وربما يطلب المصدر نفسه عدم الإفصاح عن هويته في اتفاق بينه وبين الصحفي يتوفر فيه قدر عالي من الثقة .

وللمصادر الخاصة أهمية بالغة في عالم الصحافة . فهي قد توفر معلومات لا يمكن توفرها في المؤتمرات الصحفية ولا المكاتب الإعلامية للهيئات والتنظيمات ، ولا النشرات الرسمية . وبذلك تحقق للصحافي التفرد والسبق الصحفي ، وقد تجعله محلاً للثقة من مصادر اخرى تملك معلومات هامة ولا تستطيع الاعلان عنها بصورة رسمية ، فيحرز الصحافي مزيدا من النجاح ، كما حدث في حالة الصحافي الامريكي الشهير بوب وود ورد مفجر قضية وترغيت مع زميله برينشتاين ، فقد تحول مجرى القضية الشهيرة من اتهامٍ لموظفين بالبيت الأبيض بالتصنت على مكاتب الحزب الديموقراطي قبيل انتخابات الرئاسة الامريكية في العام ١٩٧٢ ، تحوَّل لتوجيه أصابع الاتهام للرئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون نفسه ، وقاد لتخليه عن الحكم في العام ١٩٧٤ ومحاكمته .

فالتحقيق الذي افقد نيكسون مقعد الرئاسة وكشف اكبر فضيحة فساد سياسي معاصر ونشرته صحيفة الواشنطون بوست ، تم عبر مصدرٍ خاص مجهول . وحقق شهرة كبيرة لوود ورد أكسبته ثقة المصادر الخاصة والرسمية حتى لُقِّب بحامل مفاتيح البيت الأبيض . مصدر وود ورد كشف عن نفسه بعد اكثر من ثلاثين عامر ، فقد كان احد موظفي ال FBI .

ومع أهمية مصادر الأخبار الخاصة او مجهولة المصدر إلا انها بالغة الخطورة ، تتطلب معرفة الصحافي لمصدره معرفة جيدة تصل لمرحلة الثقة ، قد تكون معرفة شخصية ويُفضَّل ان يكون قد التقاه وجهاً لوجه حتى يستطيع الحكم على مدى مصداقية مصدره ، وربما تكون المعرفة غير شخصية لكن المصدر يتمتع بموثوقية معروفةٍ عنه تدفع الصحافي للاعتماد على معلوماته .

والعلاقة بين المصدر والصحافي يجب ان تحكمها ضوابط بحيث لا تصل لمرحلة الثقة المطلقة التي قد تقود لتمرير معلومات تخدم هدف المصدر فيجد الصحافي نفسه ( والوسيلة الإعلامية التي يعمل بها ) قد استُغِّل ليصبح مجرد وسيلة لتحقيق غاية تخص المصدر . لذلك تكثِر الصحف على مستوى العالم من استخدام ضوابط مشددة في التعامل مع المصادر المجهولة ، ولا تلجأ لها الا في الحالات التي يتعذر فيها الحصول على المعلومة من جهة او مصدر معرَّف باسمه وصفته ، وفِي الغالب الاعم يسعى الصحافي للتحقق من معلومات مصادره المجهولة من مصادر اخرى تمثلاً لمقولة ( If your mother says she loves you , check it out ) .

بالعودة لحسكنيتة ، فقد اوردت في الحلقة السابقة ان خلافات حركة التحرير قد بدأت مبكراً ، منذ وثيقتها الأولى التي لم تفصِّل في صلاحيات رئاسة الحركة وأمانتها العامة ، والزخم الذي صاحب تفجُّر ثورة السودان بدارفور نبَّه المجتمع الدولي لخطورة ما يجري هناك ، فكان ان تعددت وتداخلت ادوار الدول المهتمة بالقضية ، أدي كل ذلك لبداية البحث عن حل عاجل يوقف الحرب . بدأ التفاوض منذ ابشي الاولى وتم التوقيع على وقف إطلاق النار في الثالث من سبتمبر ٢٠٠٣م ، مروراً بانجمينا حيث تم التوقيع على اتفاق الترتيبات الانسانية والأمنية ن في الثامن من ابريل ٢٠٠٤م ، ثم جولة باديس أبابا في منتصف يوليو ٢٠٠٤م ، وصولاً لجولات أبوجا التي انعقدت أولاها في الفترة من ٢٣ اغسطس وحتى ١٥ سبتمبر من العام ٢٠٠٤م واستمرت حتى توقيع حركة تحرير السودان ( مناوي ) على اتفاق سلام دارفور في الخامس من مايو ٢٠٠٥م . كانت الحركة تخوض تلك الجولات فتقود مجريات التفاوض لخلافات اعقد ، تتجاوز الطابع التنظيمي إلى تباينات حول الرؤى والمواقف المطروحة على طاولة التفاوض . وفِي ظل وجود الصحافة هناك لتغطية المفاوضات ، تتسرب ادق المعلومات عن فحوى الخلاف . لذلك فان جولات التفاوض بأبوجا قد وفرت للصحافيين عبر مصادرهم الخاصة ، صورة قريبة لما يجري داخل الحركة . بجانب جولات التفاوض كان هناك اللقاء التشاوري بين الادارة الأهلية بدارفور وحركتي تحرير السودان والعدل والمساواة بطرابلس في ديسمبر من العام ٢٠٠٤ برعاية الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي .

بالنسبة لي ، شكل لقاء طرابلس اول فرصة للتعرف على الحركتين ، قادة وقواعد ، أجرينا خلاله لقاءات صحفية مشتركة بيني والزميلة فاطمة غزالي مع عددٍ من قادة الحركات . وبرغم اننا لم نفلح في لقاء رئيس حركة تحرير السودان عبدالواحد النور الا ان المؤتمر أتاح لنا التعرف على الكثيرين من أعضاء الحركة ، وأوضح لنا حقيقة ما يجري داخلها . فقد كتبتُ تقريراً عن المؤتمر نُشِر بصحيفة الرأي العام ، اوردتُ فيه حالة الفصل التي يسهل التعرف عليها بين الرئيس ومجموعته من جانب ، ومجموعة الامين العام ( لم يشارك في المؤتمر ) من الجانب الآخر .

والمصادر تقود للتعريف بمصادر اخرى اقرب لصنع القرار . تدفق المعلومات عبر المصادر عن خلافات الحركة كان ينبئ بحدثٍ كبير ، فقد بدأ التحضير لمؤتمر الحركة ، وشُرِع في تكوين لجانه بعد لقاء اسمرا في النص الثاني من العام ٢٠٠٤م .

وكما يحدث الآن داخل الحركة الشعبية ، ومنذ ان نشر الزميل عباس محمد ابراهيم استقالة القائد الحلو بصحيفة الجماهير ، فان تدفق المعلومات يأتي من طرفٍ واحد من أطراف الصراع ، الطرف الذي يُؤْمِن بأن لديه رسالةً يجب ان تصل للجمهور ، تمهيداً لعملية تغيير كانت التسريبات اول خطواتها . فالتسريب لا يهدف فقط لاطلاع الجمهور المعني بالقضية على حقيقة ما يجري ، وإنما ، ووفقاً للقائد الحلو ، فانه يريد من جمهور المستهدفين بالمعلومات الإسهام بالمساعدة في الحل . لكن ربما ، وفوق كل ذلك ، تسعى مصادر الأخبار المسربة لتهيئة الرأي العام وحشده لقبول ماهو قادم من خطوات .

لذلك ووفقاً لما جرى في حركة تحرير السودان ، ويجري الآن بالحركة الشعبية ، فأن حرب المصادر الخاصة ( المجهولة ) تأتي كمعركة أولى تمهد لأخرى اكبر ومصيرية .

اواصل

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قراءة في حسكنيتة الأولى سلسلة مقالات تنشر على صفحة الكاتبة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ