رأي

دكتور النور حمد يكتب.. قانون النظام العام وجذوره الإرهابية 

د. النور حمد

 

أحب أن أبدأ بالقول، إن قانون النظام العام قانونٌ ارهابي. فهو لا صلة له بأي قيمة من قيم الإسلام، أو بأيٍّ من قيم المجتمعات والثقافات السودانية. هذا، فضلاً عن أنه لا صلة له بأي قيمة من قيم التحضر والتَّمَدْيُن. إنه نبتٌ شيطانيٌّ وافدٌ، ليس من جوهر الإسلام في شيء، وليس من واقع الحياة العربية والإسلامية المعاصرة، في شيء. أنه غثاءٌ من متون نصوص السلفيين المتأخرين، ومن مرتكزات تكفير الغير، ودمغهم بالجاهلية، ورِقَّةِ الدين، كما في أساسيات فكرة الإخوان المسلمين، التي في أصلها، فكرة إرهابية. 
لا وجودَ لقانون للنظام العام، بصورته التي نراه بها اليوم في السودان، في أي مكانٍ آخرٍ في العالم، سوى في بلدين، إضافةً إلى بعض التنظيمات الإرهابية التي سعت، أو تسعى، لتأسيس دول، وفق هذا النمط من التفكير المريض. لا يوجد تطبيقٌ شبيهٌ لمثل هذه التصورات المريضة، التي تجري، باسم قانون النظام العام، في السودان؛ لا في مصر، ولا في تونس، ولا في الجزائر، ولا في المغرب، ولا في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا في الكويت، ولا في أي قطر عربي، أو إسلامي، آخر، على الإطلاق. الاستثناءان الوحيدان هما، المملكة العربية السعودية وإيران. يُضاف إليهما دولة طالبان، المقبورة، ودولة داعش قصيرة العمر، التي قضت نحبها، غير مأسوف عليها، وهي في شرخ صباها. وحتى حكومة الإخوان المسلمين في غزة، لم نسمع أنها تمارس مثل هذه الممارسات الوضيعة، المريضة، باسم القانون، وباسم الفضيلة.

الطريف، أن السعودية، التي ظلت تمثل التجسيد الأعلى لهذا النمط من التفكير المريض، الذي ينسب نفسه إلى الدين، وقيمه، بغير وجه حق، أدارت ظهرها مؤخرًا لابن تيمية، ولمحمد بن عبد الوهاب، ولابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم من فقهاء الوهابية. بل قامت بكتم أنفاس الأجلاف، المُسَمَّوْن “جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وأبعدتهم من تسميم جو الفضاء العام السعودي. شرعت السعودية، في التطلع إلى حياة اجتماعية، حديثة، طبيعية، متوازنة، ولاندماجٍ في المنظومة الدولية، محاولة الاحتفاظ، كما هو الشأن في كل الدول الاسلامية، بالخصائص الثقافية والسلوكية المعروفة لدى كل المجتمعات الإسلامية، في الاتزان والاحتشام، بعيدًا عن الغلو والتطرف، وعن هذا الجنون، والهوس. ويبدو أننا بقينا الآن، وحدنا، في هذا الوحل الآسن، الذي ربما لا يشاركنا فيه، في هذا اللحظة، في كل بقاع الأرض، سوى جماعة بوكو حرام.

تقول حكومتنا، إنها جزءٌ من جهود المنظومة الدولية في محاربة الارهاب، وتظن أن العالم سوف يصدقها، وهي تمارس هذا الارهاب الذي يجري، كل يوم، تحت مظلة قانون النظام العام، ويجتذب وسائط الإعلام، المحلية، والإقليمية، والدولية، ما جعل بلادنا مضحكةَ، وموضعًا للهزء والتندر. الإرهاب ليس حصرًا على حمل البندقية لإكراه الناس على ما يراه الإرهابي حقًا واجب الاتباع، أو ذبحهم، استنادًا على فرمان تكفيري يصدره الارهابي. جوهر الارهاب هو ادعاء فصيل من الناس، أنه يملك حق الوصاية على البقية. وأنه من حقه صوغهم وفق ما يرى. هذا الزعم وهذا الادعاء الباطل، هو مصدر كل الشرور.

لن يصدق العالم دعاوى الحكومة السودانية بأنها جزء من منظومة محاربة الإرهاب، وهو يراها مصرة على أن تمارس هذه الملاحقات المريضة للنساء، بسبب الزي. هذا، مع العلم، أن في كل القضايا التي جرى بموجبها جرجرة النساء إلى سوح القضاء، بتهمة الزي الفاضح، تساءل الناس بلا استثناء: أين هو الزي الفاضح؟ بل، وتساءل المعتدلون من القضاة، نفس السؤال. ويعكس هذا، بجلاءٍ لا بس فيه، أن لحكومة الخرطوم، وشرطتها، ووكلاء نيابتها، معيارٌ خاص بهم، لما يسمى “الزي الفاضح”، وللشعب، بلا استثناء، معيارٌ آخر. وفي هذا أبلغ دليل على هلامية مادة الزي الفاضح، ومطاطيتها. كما أن فيه رسالة للحكومة المركزية، ولحكومة الخرطوم، بخاصة، أن تقلعا عن هذا العبث الصبياني، الذي لا يليق بالراشدين المتزنين من البشر.

وحتى لا تضيع الحقائق التاريخية في أتون الحوادث والملابسات والتشرذمات المتأخرة، نتيجة لما سُمي بالمفاصلة، فإن أول من أوحى بالتوجه الذي أنتج قانون النظام العام، في السودان، هو الدكتور حسن الترابي. فالقانون قد سن في عام 1990، والانقاذ مزهوة بانقلابها، واثقة من قدرتها على إعادة صياغة الحياة الاجتماعية السودانية، وفق ما تهوى. وتعود جذور الأمر إلى سبعينات القرن المنصرم، حين كان الترابي يعمل من داخل نظام نميري، لاحتوائه، وما جرى حشره من تصورات قمعية كبتية، عبر ما سميت “لجنة تعديل القوانين لتتماشى مع الشريعة الإسلامية”. عمل الترابي، بدأبٍ، لتسيير دفة نظام نميري ليعتنق تصورات الإخوان المسلمين، وليفرض هذا النمط المعتل من التدين، بالسيف والسوط. أثمرت جهود الدكتور حسن الترابي “قوانين سبتمبر” المشؤومة، التي جلس بموجبها أفراد من تنظيمه، وكلاءَ للنيابة، مثال: محمد آدم عيسى، وقضاةً في محاكم العدالة الناجزة، مثال: المرحوم، أحمد محجوب حاج نور. في ذلك المنعطف، سقط السودان في هذا المستنقع، الذي نوشك الآن على الخروج منه، بعون الله.

لم يأت الدكتور حسن الترابي، بتوجه “إعادة صياغة المجتمع”، “إخوانيًا” بالسيف والسوط، من عنده. فالترابي ابنٌ شرعي لمتونٍ فقهية ومقارباتٍ اسلامية، بعضها قديمٌ، وبعضها محدث. فهو تلميذٌ نجيبٌ، لابن تيمية، ولمحمد بن عبد الوهاب، ولحسن البنا، ولسيد قطب. فهو تلميذ لكل هؤلاء، مجتمعين. من هذا النمط من التفكير جاءت تزكية الذات، وتزكية الجماعة، ودمغ المجتمع، برمته، بالجاهلية وبالانحلال الأخلاقي. وهكذا تأسست فكرة الاستعلاء والصلف والغطرسة، بدعوى كمال الإيمان لدى الفصيل الإخواني، وضعفه عند غيره. ومن هنا جاء، التسويغ للذات حق صياغة “الآخرين”، أو “الغير”، “إخوانيًا”، عن طريق السيف والسوط.

ما يجري الآن تحت ما يسمى قانون النظام العام محض مهزلة. وهي مهزلة يجري فيها جرجرة النساء إلى سوح القضاء، ليجلس القضاة لساعاتٍ طويلة، مبددين موارد الدولة، ووقت الدولة، ووقت المتهمين، وذويهم، ومعارفهم، وأصدقائهم، في النظر، في قضايا ملفقة، أسوأ ما يكون التلفيق. لقد فتح قانون النظام العام، بهلاميته، ومنحه سلطة تقديرية للأفراد العاملين في مجال تطبيق القانون، الباب على مصراعيه، لضعاف النفوس، وللمنحرفين وسط قوات الشرطة، ووسط منظومة وكلاء النيابة، لمضايقة النساء، وابتزازهن. وهكذا يتحول ما أريد تطبيقه خدمة للفضيلة، إلى بابٍ عريضٍ للانحدار الأخلاقي، ولإرهاب الأفراد، وإرباكهم، ولتسميم المجال العام.

أصل هذا الداء هو الادعاء “الإخواني” الكاذب، الذي يمنح التنفيذيين في الدولة، الحق في تربية الغير، بصياغة القوانين غير الدستورية، المجافية للأعراف، وللتقاليد، وللذوق السليم، أو ما يسمى بالإنجليزية commonsense. استنادًا على هذا الزعم الباطل، منح أهل الإيديولوجية الإسلاموية المتهوسة، أنفسهم حق الإنابة عن الأسر في تربية بنيها وبناتها! بل وتربية الآباء والأمهات أنفسهم!! ولم أر في حياتي ادعاءً عريضًا، سخيفًا، باطلاً، كهذا الادعاء.

لابد هنا من إيراد هذه الملاحظة، وهي أن من يُسمون بـ “الإسلاميين”؛ من بقوا منهم في السلطة، ومن ادعوا معارضةً لها، من منطلقاتٍ ديمقراطية مزعومة، ومن جلسوا منهم في الحياد، لا يكتبون، قط، عن هذه الانتهاكات المتكررة لحقوق النساء، وعن الإذلال وتلطيخ السمعة الذي يتعرضن له، وتترض له أسرهن، بغير وجه حق. ويبدو أن “الإسلامي”، مهما ادعى من التحرر، ومن الاعتدال، ومن الأوبة إلى حضن المبادئ الديمقراطية، لا يستطيع أن يقتلع رجليه بالكلية من أوحال محمد بن عبد الوهاب، وسيد قطب. وما أكثر ما عجبت من الحديث عن الترابي بوصفه مجددًا. فأنا لم أستطع، عبر متابعتي اللصيقة لفكر الترابي ومواقفه، عبر أربعة عقود من الزمان، أن أرى فيه غير ديكتاتورٍ سلفيٍّ مراوغٍ، يلبس لكل حالةٍ لبوسها.

إذا أرادت الحكومة السودانية أن تحدث تحولا في مسارها، لتصبح مقبولة ضمن منظومة الاعتدال في الكوكب، ولتدمج نفسها في التيار العام، وتشغل نفسها بما تشغل به الحكومات الرشيدة الجادة نفسها، أن تلغي هذا القانون، جملة وتفصيلا. فالقانون العام كاف جدا. ولقد عاش السودان دهورًا قبل الانقاذ، من غير قانون النظام العام، وكانت أخلاقيات أهله أفضل بكثير، مما هي عليه بعد صدور هذا القانون المشؤوم. وإذا أراد “الإسلاميون” أن نصدق أنهم أحدثوا مراجعات جذرية لتصوراتهم، عليهم أن يصوبوا معنا أقلامهم وأفواههم، لإبعاد أوساخ هذا القانون، و”زفاراته”، من الحياة السودانية، التي ظلت زكية، طيبة، نقية، فاضلة، عبر حقب التاريخ. فقد آن الأوان لكم، أيها “الإسلاميون”، لكي تنزلوا من سرج الادعاءات الكاذبة الذي امتطيتموه عقودا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ