رأي

حكاويهم في المعتقلات

بعد ربع قرن من التجربة المجرم والضحية في بيوت الاشباح

محمد سيد احمد عتيق
محمد سيد احمد عتيق

عندما نقول ” معتقلات الإنقاذ ” او ” بيوت الاشباح ” فإننا لا نعني فقط تلك البيوت المحددة وزنازينها التي تم تصميمها بطريقةٍ جهنمية تحيلها الى ثلاجات في الشتاء وافراناً لاهبة في الصيف .. لا ، ولا ما يجري فيها من صور التعذيب والإذلال .. معتقلات النظام عبارة عن منظومة من الأفراد ، القيم ، القناعات ، الوسائل ورؤى ايديولوجية متكاملة تموج في بيئة محددة ..
لشرح ذلك نستعرض الذي يحدث معك عند الاعتقال :
– عندما يصدر قرار باعتقالك ، هنالك فرق متخصصة بتنفيذ القرار ، تتكون الفرقة ( التيم ) على الاقل من ضابط وأربعة جنود بأسلحتهم الرشاشة على سيارتي تايوتا هايلوكس – وانت اما معروف لديهم بشكلك ومنزلك فيأتون إليك منتصف الليل او الفجر الباكر ليقتادوك ، او ان لديهم شكوك في شكلك او مكان سكنك لأنك تتردد على اكثر من منزل خلال اليوم مثلاً ، ففي هذه الحالة يبدأون البحث عنك ثم يتابعونك متابعة لصيقة الى ان يتأكدوا منك تماماً فينصبون لك ( الكمين ) نهاراًاو يداهمونك ليلاً .. في كل الاحوال ، هذا الفريق من المجموعات المختصة بتنفيذ قرار الاعتقال ، يقوم بتفتيش منزلك تفتيشاً شاملاً ومصادرة كل ما يرونه معادياً خاصة الكتب والاوراق .. الخ وأي أموال يجدونها في المنزل أو في جيوبك ، اجهزة تصوير او كمبيوتر .. الخ ..
اذا كنت تملك سيارة فانهم يحرصون على ان تقودها
بنفسك ويصعد معك فيها عنصرين بأسلحتهم الى ان تصلوا رئاسة الجهاز حيث ينتزعونها منك .. في حالة وجود اهل بالمنزل فانهم يحرصون على الظهور بمظهرٍ مهذب ، اما اذا كنت بمفردك فانهم يتعاملون بعنف وتوتر وعصبية غليظة في ألفاظهم وتصرفاتهم ، وتلك سجيتهم الطبيعية ..
عند الوصول الى رئاسة الجهاز يسألك الضابط عن بياناتك الشخصية ( الاسم ، المهنة ، الحزب ..الخ ) ويكتبها في اورنيك خاص بك ثم يصدر أمره : ودوهو الواحة ( خذوه الى الواحة )، هذا الامر يصدر لافراد اخرين غير فرقة الاعتقال ، والواحة يقصدون بها بيت الاشباح الرئيس .. وتنتهي مهمة هذه الفرقة معك بانتزاع مفاتيح منزلك منك اذا كنت تسكن وحيداً وسيارتك اذا كنت تملك سيارة ..
– والآن يأتي دور قسم آخر من أقسام الجهاز هو القسم المسئول عن بيت الاشباح ، يستلمك مناديبه من ضباط الاعتقالات ، يأمرونك بالدخول في سيارتهم بعد تعصيب عينيك ويطلبون منك ان تكون منكفئاً على وجهك داخلها .. تطوف بك السيارة فترة من الزمن للتمويه ثم تدخل الى منزل هو بيت الاشباح وتتوقف ، يفتحون ابوابها ويخرجونك منها بعنف وتصدر لك الأوامر ان تقف في مواجهة الحائط المجاور رافعا يديك الى اعلى ليبدأ البرنامج المشهور باسم ( حفلة الاستقبال ) اذ ينهال عليك عدد منهم بالسياط والعصي وخراطيم المياه ضرباً بلا هوادة ودون حساب من أسفل الساقين الى اعلى الرأس ، مصحوبا بالشتائم والاستهزاء ، وهم لا يعرفونك ولا ماهي جريمتك ، ويسألونك أثناءها عن اسمك ومهنتك .. الخ !! ، تتغير ورديات هؤلاء الحراس وحفل الاستقبال مستمر ، كيف ومتى ينتهي هذا الحفل ؟ لا قانون ولا وقت له ، انت وحظك ..
هذه المجموعة هي المشرفة على بيت الاشباح المعين وتفعل فيه وفي ” سكانه ” ما تشاء : يشرفون على خروج المعتقلين من زنازينهم بالدور إلى الحمامات ( خمسة مرات في اليوم مع مواعيد الصلوات ) ، المراقبة الدائمة وإنزال العقوبة على ابسط التصرفات الانسانية ( الالتفات ، الضحك ، الكلام … ) الخ ، ممارسة التعذيب في فناء البيت ضد معتقل او اكثر .. ولا بد ان اذكر هنا ان هنالك مسارح تعذيب اخرى اكثر قسوةً ودمويةً وهدراً لكل شيئ يقتادون اليها المعتقل المطلوب لليلةٍٍ او اكثر او باستدعاءات متكررة حيث تجري محاولات التدمير والاغتيال المعنوي والشخصي بفنونٍ اخرى من فنون التعذيب منها الاغتصاب ..
نحن الآن امام مجموعتين من أفراد الامن : مجموعة الاعتقال والمصادرة وتجريد المعتقل من كل ممتلكاته ، ومجموعة التعذيب والإذلال وممارسة اقسى انواع العنف البدني واللفظي على المعتقل يومياً بل وفِي كل لحظة .. هذا من حيث البشر كجزء من بيوت الاشباح او معتقلات الإنقاذ ، اما الجزء الآخر ( الثالث ) من المصطلح فهي سلوك هؤلاء الأفراد ، الدوافع المحركة لها ، والمعتقدات التي تقف خلفها ، وبالنتيجة ، البيئة التي تعم داخل المعتقل وتعيشها طوال فترة اعتقالك ثم لفترة طويلة بعد إطلاق سراحك في شكل هواجس وكوابيس تختلف درجات الناس في سرعة التخلص منها سواءٌ بالارادة الذاتية او بجلسات العلاج النفسي ..
أفراد بيت الاشباح الذين رأيتهم كلهم شباب اغلبهم في العشرينات من العمر والبقية في الثلاثينات .. أحاديثهم ، تصرفاتهم ومجمل سلوكهم مطبوعة باللامبالاة والاستهتار بالمعتقلين وازدراء كل شي ، لا اعتبار لعمر المعتقل ولا لمركزه واسمه في المجتمع .. في أي لحظة تتوقع ان يفتعل احدهم مشكلة معك فتخضع لعقوبةٍ أو أكثر من عقوباتهم المعروفة وكلها تبدأ بموضوع الأرنب ، فيقول لك صائحاً : أرنب استعد ، ومعناها ان تجلس على أصابع قدميك وتضع يديك على ركبتيك ، ثم يصيح : أرنب نط ، وعليك ان تمشي قفزاً وانت في ذلك الوضع … اذكر هنا مثلين اثنين مما رأيت ، فيها شرح مكثف للأمر :
– المناضل الوطني الكبير الحاج مضوي محمد احمد ، رحمه الله ، ( وكان قد تجاوز الثمانين آنذاك ) ، كان في زنزانة انفرادية ، تعثر قليلاً عند الخروج للوضوء ، فجاءه احدهم ( شاب في العشرينات ) صائحاً : أرنب استعد ، وكان ما كان مما لا ضرورة لذكره ..
– استاذ محاضر في جامعة الخرطوم ، أرادوا إقامة حفل استقبال له عند أول حضوره ، فتردد الرجل في الوقوف على الحائط ، فقال له أحد شباب التعذيب متباهياً : ” نحنا لواءات درشناهم هنا ، قايل نفسك شنو ؟ ” ، وفعلوا كل ما أرادوه معه ..
إذن ، فان أركان معتقلات الإنقاذ / بيوت الاشباح : فريق الاعتقالات – فريق الحراسة والتعذيب – سلوك أفراد الحراسة والبيئة التي تنتج عنها وتحكم حياة المعتقلين في تلك البيوت ..
يبقى ان نتساءل عن الدوافع المحركة لهذا السلوك ؟ هل تم تدريبهم على ذلك ام هناك نبعٌ آخر ؟؟ص ٤ أسفل الصفحة :
الامر ببساطة يتعلق بقضية اقحام الدين في السياسة والحكم باسم الاسلام سواء جاء ذلك الحكم بالانتخاب الديمقراطي او بانقلاب عسكري ..
من المعروف أن أفراد مثل هذا التنظيم يعتقدون جازمين أنهم يمثلون إرادة الله وتعاليمه في الأرض ، وهؤلاء الشباب ( جنود جهاز الأمن ) يخضعون لدورات عسكرية / أمنية / دينية / سياسية يخرجون منها وهم أكثر إيماناً بأنهم يمثلون الحقيقة وغيرهم على باطل ، أنهم المسلمون الحقيقيون وغيرهم كفرة ، وأن أعداء الإنقاذ ( حزب الجبهة الإسلامية ) هم أعداء الله وأن أموالهم وممتلكاتهم غنائم ساقها الله لهم حلالاً عليهم ..
وهنا بالضبط نجد الخلفية التي تحكم سلوكهم وتخلق مثل تلك البيئة المليئة بالحذر والترقب داخل تلك المعتقلات السرية ، انها الرؤى الايدولوجية المشحونة بقوة الدين عندما تتغلغل في ادمغة شباب كهؤلاء فتنهار القيم والتقاليد امام ناظريهم ويسود الإستهتار والإستخفاف بكل شيئ ولا صوت يعلو فوق صوت التأمين ، تأمين “النظام الإسلامي ” والتأمين الذي تدربوا عليه هو الاستهزاء بالمعتقلين ( الكفرة ) وتعذيبهم والتلذذ بآلامهم .. كيف لا وقد رأى هؤلاء الشباب قدوتهم ، رأوا في سنوات الانقلاب الاولى كبار قادة النظام، من عسكريين ومدنيين ، يمارسون التعذيب والإذلال والإنتقام الشخصي بأنفسهم ضد رجال كبار في أعمارهم ومقاماتهم وأدوارهم ..
هذه بإختصار هي الجوانب المختلفة التي يتشكل منها مصطلح بيوت الاشباح ( معتقلات الإنقاذ ) ، تركناها مفتوحة على تساؤلات تبحث عن المجرم الحقيقي في هذه العملية ، وهل الجريمة فردية ، فئوية أم شاملة يشترك فيها قيادة الجبهة الاسلامية وسلطتها وجهاز أمنها وايديولوجيتها ، وهل هناك مجرمون هم أنفسهم ضحايا ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ